الاثنين، 6 مايو 2019


آثــار إثبــات البنـوة والنسـب على ضــوء مقتضيات قانون مدونة الأسرة الجديد 70.03

                           الجزء الأول

  مقدمة عامة:

      « الولادة ونتائجها» عنوان الكتاب الثالث من قانون مدونة الأسرة الجديد 70.03 ¬ المتضمن لثلاثة أقسام متفرعة بدورها إلي عدة أبواب (المواد 142 إلى 205).

     ويحتوي هذا الجزء من القانون على أحكام، وقواعد أساسية، وبحمولات فقهية، حاولت اجتهاديا المزاوجة بين الثوابت الشرعية الإسلامية، ومقتضيات المواثيق الدولية الحقوقية الأساسية المكرسة لحقوق الطفل وحمايتها، إلى جانب حقوق كل من المرأة والرجل في إطار نظام أسري وعائلي متماسك، حيث أكد هذا القانون في ديباجته الأساسية اعتمادها، إضافة إلى ما أكدت عليه بخصوص منطق وطريقة تفسير وتطبيق مقتضياته (الاجتهاد المنفتح، الحداثي، العلمي...)،  وهو منطق وفلسفة يستوجب حسن تطبيقها ميدانيا على مستوى العمل القضائي المغربي آنيا ومستقبلا، إعادة القراءة المتأنية، المتأملة، للعبارات، والمصطلحات، والكلمات، المعتمدة من طرف المشرع، لاستقصاء مدلولاتها وحقيقة المقصود منها، مع اعتماد الأسلوب الأساسي في محاولة تقصي إرادة المشرع بشكل متكامل بين مواد نفس القانون ومراعاة لمقتضيات النصوص التشريعية الأخرى الجاري بها العمل تفسيريا أو تكميليا....من قبيل قانون الحالة المدنية ¯ وكذا قانون المسطرة الجنائية في مقتضياته الخاصة بالأحداث في وضعية صعبة.

     ومن أجل حسن التطبيق لفائدة المصلحة العامة، وإنفاذا للعدل والإنصاف في حالات المصلحة الخاصة... في إطار المشار إليه أعلاه، وفي حدود حصر الموضوع في " بعض آثار النسب وآثار البنوة في إطار قانون مدونة الأسرة..." أجد أن الأمر يستوجب الوقوف عند عدة مصطلحات، وألفاظ، و تعابير قد يساهم الوقوف عليها في المساهمة الإيجابية في توضيح المراد أو المبتغى... وهو ما سيكون موضوع الفصل الأول من هذا العرض، وبعده الآثار المترتبة عن كل منهما.
******
الفصل الأول:آثار البنوة غير الشرعية/ الطبيعية
 
الباب الأول: تعريفات أساسية

     قانون مدونة الأسرة الجديد 70.03  أقر وأكد على التمييز بين كل من البنوة والنسب وأقر في الترتيب لمواده أن يخص موضوع البنوة بمقتضيات الباب الأول من القسم الأول من الكتاب الثالث من المدونة (المواد: 142 إلى 149)، وبعده خصص الباب الثاني من القسم الأول من الكتاب الثالث (المواد: 150 إلى 162) لموضوعي –النسب ووسائل إثباته-بإضافة وتنظيم موضوع وسائل إثبات النسب...

تعريف البنوة وأنواعها:

      من خلال المواد، 142 إلى 149 من قانون مدونة الأسرة المنظمة أساسا لموضوع البنوة يلاحظ أن المشرع حددها في الفصل 142 كما يلي:
      «تتحقق البنوة بتنسل الولد من أبويه وهي شرعية وغير شرعية».
     وبغض النظر  و تجاوز الصياغة القانونية لهذه المادة من خلال استعمال حرف «و» بدلا من «أو» للتمييز بين البنوة الشرعية والبنوة غير الشرعية ورغم أن الصياغة غير دقيقة قانونا وشرعيا وبمنطق قانون مدونة الأسرة لكون عبارة «البنوة الشرعية»  بالنسبة للأب لا داعي للتنصيص عليها لكونها منظمة ومقررة أحكامها في قواعد النسب، فالبنوة إذا كانت شرعية بالنسبة للأب تصبح خاضعة لقواعد النسب، المحدد تعريفه القانوني في المادة: 150 التي تنص صراحة وتأكيدا على تعريف النسب بأنه:
     «النسب لحمة شرعية بين الأب وولده تنتقل من السلف إلى الخلف».
    وبخصوص تعريف مفهوم ومصطلح البنوة، فإنه لئن كان مشروع قانون مدونة الأسرة لم يعرفها صراحة كما فعل بخصوص موضوع النسب الذي عرفه في المادة: 150 فإن الأمر يستوجب البحث عن تعريف فقهي شرعي حقوقي لمفهوم ومعنى «البنوة» وبشكل يميزها عن «النسب» المحدد تعريفه التشريعي ووسائل إثباته أو إنكاره، وآثار ذلك ... (في قانون مدونة الأسرة 70.03) .
ومن بين التعريفات التي اخترت تقديمها في هذا العرض لتعريف موضوع البنوة.
    موقف وزارة العدل بشأن تقديم مشروع قانون مدونة الأحوال الشخصية الملغى، وبصدد مناقشة الكتاب الثالث منه  تحت عنوان: «الولادة ونتائجها» ­ .
    حيث جاء في تقرير المقرر العام للجنة/آنذاك، وبخصوص موضوع –البنوة- ما يلي حرفيا:
   «البنوة في الأصل اللغوي هي نسبة مولود لمن ولد عنه، فإن اعتبرت من جانب الأب كانت أبوة، وإن اعتبرت من جانب الإبن كانت بنوة: ثم هي نوعان؛ شرعية، وطبيعية».
   * البنوة الشرعية: هي التي يتبع فيها الولد أباه في النسب ويبني عليها التوارث فيما بينهما، وينتج عنها موانع الزواج وتترتب عليها حقوق وواجبات أبوية و بنوية في قبيل:
       1- الإنفاق على الطفل الذكر إلى بلوغه سن الرشد القانوني، المحدد في 18 سنة تمدد إلى25  سنة إذا كان يتابع الدراسة.
       2- الإنفاق على الأنثى إلى أن تتزوج أو يكون لها كسب خاص.
       3- الإنفاق على كل من الذكر و الأنثى –إذا كان من ذوي الحاجات الخاصة العاجزين عن الكسب إلى حين زوال أو علاج الإعاقة.
  * البنوة  غير الشرعية: وهي المعروفة بالبنوة الطبيعية –وبشأنها يميز القانون 70.03 بشأن مدونة الأسرة بين النظرة إليها (البنوة) في اتجاه الأب –الطبيعي- والنظرة إليها في اتجاه الأم، حيث أقر ما يلي:
    - بالنسبة للأب: تنص المادة 148 على أنه:
    «لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية»
    - بالنسبـة للأم: تنص المادة: 146 على ما يلي:
    «تستوي البنوة للأم في الآثار التي تترتب عليها سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية»
    وتنص الفقرة الأخيرة من المادة 148 على أنه: « تعتبر بنوة الأمومة شرعية في حالة الزوجية، والشبهة، والاغتصاب».
الباب الثاني: الآثار المترتبة عن البنوة "غير الشرعية"/ الطبيعية
    إن الأدق الدقيق الواجب تمحيصه في موضوع البنوة غير الطبيعية هو الآثار المترتبة عن البنوة غير الشرعية (البنوة الطبيعية)، التي يتعين أن تنحصر آثارها وعواقبها بصفة أساسية على المسؤولين المباشرين عنها.
     فأية آثار وأية مسؤوليات بشأن البنوة الطبيعية؟
     أية حقوق للابن الطبيعي له تجاه والده المعروف؟
     تنص مقتضيات المادة 148 من قانون مدونة الأسرة 70.03، الذي صادق عليه مجلس النواب بالإجماع في جلسته العمومية ليوم الجمعة 16 يناير 2004 على ما يلي:
     « لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية ».
     يبدو أن وضع هذه المادة في مقابل بعض المواد المنظمة لحقوق الطفل وكذا المتعلقة بقواعد المسؤولية الشخصية، لمن تسبب بفعله الشخصي في ميلاد الطفل عن طريقة علاقة فساد أو جريمة اغتصاب نتج عنها ازدياد  طفل أقر لفائدته التشريع المغربي وكذا المواثيق الدولية الإنسانية -خصوصا المتعلقة بحقوق الأطفال- حقوقا إنسانية منها، حقوقه الخاصة من إنفاق أو تكفل أو رعاية أو مساهمة في ذلك... إضافة إلى حقوقه المعنوية من تسمية، وجنسية، وتقييد في سجلات الحالة المدنية تحت هوية كاملة تحمل اسم الأب واسم الأم الحقيقيين إن كانا معروفين ومختارين، أو إن كانا مجهولين أو أحدهما .
     لذلك فإن الحسم والقطع في عدم ترتيب أي أثر بالنسبة للبنوة غير الشرعية لا يجب أن يفهم أو يفسر على أنه نفي أو إعفاء كلي من أية مسؤولية مرتبة للجزاء من قبيل الإنفاق أو الرعاية أو المساهمة فيهما.
     ولعل ما يساعد على هذا التوجه هو أن المشرع لم يقف عند عبارة « أي آثار» وإنما حصر الآثار التي لا تترتب في الآثار الشرعية، من قبيل استمرار النسب الشرعي،وما يرتبه من حقوق في التوالد وحصر كثلة الورثة الشرعيين.
     لعل السليم بشأن هذا الموضوع، هو إقرار قواعد المسؤولية المدنية عن السلوك الشخصي الخارج عن القانون، وبشكل يركز بصفة أساسية على حقوق الطفل الناتج عن العلاقة...، من قبيل إقرار الإلزام بالإنفاق عليه ورعايته إلى حين بلوغه سن الرشد كجزاء مدني، تعويضي إما بشكل مباشر، أو بالأداء لفائدة الدولة الملزمة بذلك قانونا أو للمؤسسة المكلفة برعايته...
الباب الثالث: البنوة غير الشرعية للأم وقواعد الوصية الواجبة
    من الموضوعات الجديدة التي تستوجب المناقشة فقها بخصوص ما أقره قانون مدونة الأسرة بشأن اعتبار البنوة غير الشرعية بالنسبة للأم كالشرعية أو شرعية، بمقتضى المادتين 146 و 148 /الفقرة الأخيرة، وعلى اعتبار كون هذه العلاقة من بين ما يترتب عليه حق التوارث بين الابن غير الشرعي وأمه، وهو الموضوع –أي الإرث- الذي جاءت المدونــة بشأنه بمقتضى جديد في موضوع الوصية الواجبة حيث نصت المادة 369 على أنه:
     « من توفي وله أولاد ابن، أو أولاد بنت، ومات الابن أو البنت قبله أو معه، وجب لأحفاده هؤلاء في ثلث تركته وصية بالمقدار والشروط الآتية» .وهذه الشروط أوردتها المواد: 370، 371، 372......
     إن مقابلة هذه المادة مع بعض قواعد المساواة المقررة في المشروع سيخلق نوعا من اللبس أو الغموض عند التطبيق الميداني خصوصا وأن المادة 146 من مشروع القانون في صيغته الأصلية وقبل تعديلها بإعادة الصياغة من طـــرف مجلس النواب تؤكـد ما يلي: »تستوي البنوة الشرعية وغير الشرعية بالنسبة للأم في الآثار المترتبة عليهما» وهي صياغة دقيقة تؤدي إلى حصر آثار العلاقة الغير شرعية الناتجة عنها الولادة في حدود الأم وابنها، أي  في حدود الأمومة، دون أن تمتد إلى الغير من قبيل والد الأم الذي لا يعتبر الابن الطبيعي حفيدا له ولا إلى الإخوة للأم الذين لا يعتبرون أعماما له لانتفاء الرابطة الشرعية ونفس الشيء بالنسبة للأب الطبيعي المقرر له الحكم في المادة 148.
 
     و هذه الصياغة عمد مجلس النواب إلى تعديلها وبشكل -أظنه منتقدا وغير دقيق- حين أعاد صياغتها كما يلي:
    »تستوي البنوة للأم في الآثار التي تترتب عليها سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية »
    فالصياغة الأصلية الواردة في المشروع أكثر دقة على حالها من الصياغة المقررة من طرف البرلمان وذلك من خلال عبارة »بالنسبة للأم » التي لو أضيفت لها لفظة »فقط » لكان المضمون أسلم بجعل البنوة غير الشرعية مرتبة للآثار والالتزامات بشكل نسبي ومحصور بين الأم ووليدها دون أن تمتد هذه الآثار إلى حقوق الأغيار ومراكزهم القانونية الشرعية (كما في حالة الوصية الواجبة لأبناء البنت) المقررة تحديدا في المدونة بمقتضى المواد: 369، 370، 371 حيث يؤدي هذا الحصر إلى عدم دخول الابن غير الشرعي للبنت في الإرث مع الأبناء الشرعيين (كتلة الورثة الشرعيين).
    وبقدر ما يحتاج الموضوع إلى تدقيق ودراسة المبدأ من عدة جوانب، فإن الصياغة المصادق عليها من طرف البرلمان قد تكون غيرت المعنى المقصود، وقد يؤدي الأمر إلى فتح الباب للتسوية بين البنوة الشرعية وآثارها والبنوة غير الشرعية -التي كانت مقيدة في المشروع في صيغته الأصلية بعبـــارة »بالنسبة للأم» مما يفهم منه أن هذه الآثار لا يمكن أن تتعدى هذه النسبية.
    ولعل أهم ما قد يشكل ضابطا متحكما في عدم الانزلاق في التطبيق إلى تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله الرجوع إلى ما تم إقراره في ديباجة هذا القانون من أن المقصود في موضوع الوصية الواجبة المقررة لفائدة أبناء البنت لا يتعلق بالأبناء الطبيعيين، الناتجين عن علاقة غير شرعية، وإنما يتعلق بأحفاد الأب أي أبناء أبنائه، وأبناء بناته الشرعيين الوارثين لنسبه، لتأكيد المادة 150 من هذا القانون على ما يلي: »النسب لحمة شرعية تنتقل من السلف إلى الخلف» وهي صياغة لا تسمح من باب الزيادة أو التوسع غير المقبول بأنه »أي النسب» يمكن أن ينقل من الخلف إلى السلف».


الأحد، 5 مايو 2019

تقييم السياسات العمومية من طرف البرلمانات حالة مجلس النواب بالمملكة المغربية



تقييم السياسات العمومية من طرف البرلمانات
حالة مجلس النواب بالمملكة المغربية




عرض ذ. نجيب الخدي
الكاتب العام لمجلس النواب بالمملكة المغربية


تصميم العرض


§               تقديم
§               محاولة لتعريف تقييم السياسات العمومية   
§               غايات وأهداف التقييم
§               تقييم السياسات العمومية: المنهجيات والأدوات
§               أنواع التقييم
§               مأسسة وسير الأنشطة التقييمية
§               حالتان عمليتان

تقديم
لا يمكن إنكار أهمية اختيار موضوع تقييم السياسات العمومية ولا تحتاج إلى كثير من الإثراء لإبرازها، وذلك اعتبارا لكون تقييم السياسات العمومية أصبح ملحا بالنظر إلى الإشكاليات المرتبطة بعقلنة القطاع العمومي وتدبير الأداء العمومي.
ولا يحتاج دور البرلمانات بهذا الصدد إلى توضيح، على اعتبار أن هذه المؤسسات هي المؤتمنة والضامنة للشرعية الديمقراطية للأمة، وبالتالي فإن من واجبها تقييم السياسات لغرض التنظيم الجيد وإنتاج القوانين الفعالة. كما أنها مطالبة بالقيام بذلك بشكل منفصل عن وظائفها الرقابية حتى تكون الرؤية واضحة أمامها وهي توافق على النفقات والمشاريع أو البرامج العمومية.
وباعتباره أداة للمساعدة في اتخاذ القرارات ذات الطابع العمومي، يمثل التقييم وسيلة لترشيد العمل العمومي. فهو يسمح للبرلمانيين بالاسترشاد في اتخاذ القرارات ذات الصبغة العمومية، ليس فقط من خلال الابتعاد عن انتماءاتهم السياسية أو الأيديولوجية، بل كذلك من خلال إثارة قضايا من قبيل الآثار المحتملة والفعالية والملاءمة وتناسق المواضيع والسياسات العمومية موضوع المناقشات البرلمانية.
وإذا كان معظم هذا العرض سوف يركز على تجربة مجلس النواب المغربي في مجال التقييم، فإننا نرى أنه من المفيد، تمهيدا للعرض المتعلق بمأسسة وسير أنشطة التقييم، تقديم لمحة عامة حول المفاهيم والقضايا الكبرى ذات الصلة بتقييم السياسات العمومية. وذلك من خلال الإجابة على بعض الأسئلة من قبيل : ما هو التقييم؟ ما جدوى التقييم؟ وكيف تتم عملية التقييم؟
1.  محاولة لتعريف تقييم السياسات العمومية
يجب الاعتراف بأن واحدا من أصعب التمارين المرتبطة بالموضوع، هو التوصل إلى تعريف موحد لتقييم السياسات العمومية، وذلك لأن عملية التقييم هي بالضرورة متعددة التخصصات، وبالتالي فهي عملية ليست لها حدود مرسومة مسبقا، وهذا ما تؤكده حقيقة أن الممارسة البرلمانية لتقييم السياسات العمومية، في بلدان مختلفة، تتم استنادا إلى تعريفات متنوعة وكلها تؤكد على أهمية الإحاطة بالسياسات / البرامج وآثارها.
ودون الخوض في مسألة الأساس القانوني في هذا المجال، يعرف القانون الداخلي لمجلس النواب في المملكة المغربية، التقييم على أنه نشاط يهدف، من خلال إجراء المسوحات والأبحاث والتحاليل، إلى تشخيص نتائج السياسات والبرامج العمومية وقياس آثارها على الفئات المستهدفة والمجتمع بشكل عام، وكذا قياس مستوى تحقيق الأهداف المخطط لها وتحديد العوامل التي مكنت من تحقيق هذه الأهداف.
ويحملنا غياب تعريف توافقي ومتفق عليه بشكل نهائي إلى محاولة تعريف التقييم باعتماد مقاربة للموضوع تنبني على مقارنة التقييم مع بعض الأنشطة القريبة منه، مما يسمح برفع أشكال اللبس والخلط بين المفاهيم.
·        التقييم والتدقيق والمراقبة
يتميز التقييم عن مختلف أشكال المراقبة (مراقبة المطابقة / مراقبة وتحليل التدبير) والتدقيق التنظيمي، اللذين يستندان إلى معايير ومقاييس داخلية خاصة بالنظام موضوع التحليل (قواعد المحاسبة / المعايير القانونية / معايير الأداء الوظيفي)، فهو يعالج ، إذا ما نظرنا إليه من زواية خارجية ومحايدة، آثار وقيم الأنشطة موضوع الدراسة.
وعلى عكس المراقبة السياسية أو البرلمانية التي تقوم على اتخاذ موقف سياسي أو أيديولوجي أو حزبي مسبق، يبقى التقييم نشاطا مؤطرا علميا بمؤشرات قياس موثوقة بهدف إعادة تقييم السياسة أو البرنامج الذي يتم النظر فيه.
·        البحث العلمي والتقييم
خلافا للبحوث العلمية الاجتماعية أو حتى الحقة، حيث يكون مطلب الاستقلالية عن السياسة مصدر قلق دائم بالنسبة للباحثين، يقبل الباحثون المعنيون بعملية التقييم، دون التخلي عن متطلبات الانضباط  المنهجية، ليكونوا جزءا من المقاربة مع أخذ مساعي السياسيين وأفكارهم وانشغالاتهم بعين الاعتبار، وبالتالي التعبير عن موقف صريح تجاه الغاية المعيارية والنفعية للسياسيات التي تخضع للتقييم.
2.  غايات وأهداف التقييم البرلماني
يرتكز التقييم على ثلاث غايات أساسية : غاية معرفية وغاية أداتية وغاية معيارية.
v     الغاية المعرفية
يعتبر التقييم الذي يرتكز على الوصف والقياس، دون حكم مسبق، والذي يتوخى تجويد العمل العمومي،  بالضرورة نشاطا معرفيا، وهو يرمي إلى إنتاج المعرفة. وتكون المساهمة المعرفية للتقييم واضحة خصوصا عندما تمكن التقارير المنجزة  البرلمانيين والحكومة والمجتمع بحقائق وأرقام لم يكونوا على علم بها من قبل.
v     الغاية الأداتية
يخدم التقييم القرارات ذات الصبغة العمومية  من خلال القيام بالتحليلات وتقديم التوصيات من اجل تعزيز التدخل العمومي وتحسينه وإعادة توجيهه الاستراتيجي والعملي. ولهذا الغرض، يوفر التقييم للبرلمانيين مادة عمل قيمة لاقتراح المخرجات وتتبع تنفيذ التوصيات على أرض الواقع.
v     الغاية المعيارية
وبما أن التقييم يساعد المسؤولين وصناع القرار على إصدار حكم مبرر على نجاح أو فشل تدخل عمومي ما، فإنه ينطوي على وظيفة أو غاية معيارية من خلال تيسير تقدير السياسة في قيمتها الصحيحة. كما أنه يساعد على بلورة الممارسات الفضلى  ونشرها في جميع أنحاء البلاد. وتعتبر هذه المساهمة أساسية بالنسبة للبرلمانات، لأنها تساهم في الحكامة الرشيدة وتعزيز المساءلة أمام المواطنين.
3.  تقييم السياسات العمومية: المعايير والأساليب
يكون تقييم السياسات العمومية الذي يهدف إلى إعطاء قيمة لمخرجات (نتائج / إنجازات) السياسة موضوع التقييم، دائما مؤطرا بمنهجيات دقيقة. وتقوم مصداقيته وصرامته على عدد وافر من المعايير المرتبطة بمؤشرات موثوقة. ومن بين المعايير التي يمكن استعمالها بشكل تبادلي أو مجتمعة بمناسبة نشاط تقييمي، نذكر :
v     معيار الملاءمة:
يشمل هذا المعيار أهداف ودواعي التدخل العمومي، ويتحقق مما إذا كان التدخل يغطي على نحو جيد وكاف الأبعاد المختلفة للمشكلة التي من المفترض أن يعمل على حلها أو تسويتها.

v     معيار التناسق الداخلي:
يسعى الى استجلاء الترابط المنطقي بين الأهداف الاستراتيجية والعمليات المختلفة للمشروع  والتحقق من مدى ملاءمتها للحاجيات المحددة في السياسة او البرنامج موضوع التقييم.

v     معيار التناسق الخارجي:
يهدف هذا المعيار إلى ضمان أن أهداف سياسة معينة تتلاءم مع السياسات أو البرامج التي تنفذها المؤسسة نفسها أو تنفذها مؤسسات أخرى تعمل في نفس المجال، والتأكد من أنها ليست متضاربة.
v     معيار الفعالية:
يتحقق مما إذا كانت الآثار المتوقعة قد حصلت فعلا بفضل الإجراءات التي تم اتخاذها، وليس نتيجة عوامل خارجية غير متوقعة.
v     معيار النجاعة:
من خلال إجراء مقارنات، في الزمان والمكان، مع برامج أخرى بنفس الحجم ونفس الهدف، يتحقق هذا المعيار من أن النتائج تم الحصول عليها بتكلفة معقولة.
v     معايير الدوام والاستدامة:
يركز هذا المعيار على تسجيل الآثار التي يحققها المشروع في الوقت المناسب، وعلى ألا تكون النتائج المكتسبة هشة أو قابلة للتلاشي مع توقف المشاريع.
4.  أنواع التقييم
يأخذ التقييم أشكالا وانواع تخضع هذه الأنواع للتصنيف إما وفقا للحيز الزمني للتقييم أو كيفية إجراءه. وبالتالي نظرا لوقتية العملية التقييمية مقارنة مع دورة حياة السياسة أو البرنامج الذي يتم تقييمه، يمكن الحديث عن :
v     التقييم القبلي:
يتم إجراء هذا التقييم قبل تنفيذ التدخل الحكومي ويقوم بتحليل سياق التدخل ومحواه وظروف تحقيق النتائج والآثار المتوقعة. ويعتبر هذا النوع من التقييم دعامة قيمة لإدارة وإنجاز تقييمات بعدية ومرحلية.
v     التقييم المواكب:
يتم هذا النوع من التقييم خلال مدة تنفيذ مشروع أو سياسة ما. ويركز بالأساس على تناسق وملاءمة المشروع أكثر من التركيز على الآثار أو النتائج التي لم يتم تحقيقها بعد.
v     التقييم البعدي:
تقييم يتم في نهاية أو بعد نهاية المشروع أو التدخل العمومي.  ويهدف إلى استنتاج معلومات عن برنامج أو تدخل عمومي تم استكماله. وتنجز  التقييمات البعدية  سنوات بعد إنتهاء  المشاريع من أجل تقدير جيد  للآثار.
أما بخصوص كيفية إجراء التقييم فيمكن الحديث عما يلي:
v     التقييم الذاتي:
نتحدث عن هذا النوع من التقييم عندما يقوم الفاعل أو صاحب المشروع بتقييم عمله بالاعتماد على إمكانياته المادية واللوجستية والمعرفية الخاصة.

v     التقييم الداخلي:
يكون التقييم داخليا عندما تقوم به جهة  مرتبطة هرميا بالطرف طالب التقييم دون اللجوء إلى طرف مستقل.
v     التقييم الخارجي:
وفقا للمعجم المعتمد يكون التقييم خارجيا إذا كان من يقوم به طرف مستقل عن طالب التقييم وغير مرتبط بالسياسة او البرنامج موضوع التقييم.
5.  مأسسة وسير الأنشطة التقييمية لمجلس النواب للمملكة المغربية
أطلق مجلس النواب خلال السنة التشريعية الجارية  ثاني تجربة  في مجال تقييمي السياسات العمومية.
يعتبر تقييم السياسات العمومية من جانب البرلمان اختصاصا دستوريا تتم ممارسته عمليا وفقا للقانون الداخلي وعلى أساس إطار مرجعي ذي أسس علمية.
5 .1 الأسس الدستورية والقانونية لتقييم السياسات العمومية من طرف البرلمان المغربي
·      الدستور:
أكد دستور سنة 2011 في عدة فصول على ضرورة تقييم السياسات العمومية، ونص صراحة في الفصل 70 على ما يلي:
"يمارس البرلمان السلطة التشريعية. ويصوت على القوانين ويراقب عمل الحكومة ويقيم السياسات العمومية (...)".
·      النظام الداخلي لمجلس النواب:
يخصص النظام الداخلي لمجلس النواب بابا كاملا لمسألة التقييم (211-217). وتتناول هذه الأحكام تعريف التقييم وأدوار الفاعلين وإجراء الدراسات وتنفيذ النتائج...
§        السير العملي للتقييم داخل مجلس النواب يؤطره الإطار المرجعي للتقييم، ويشمل هذا الإطار:
* الجزء الأول الذي يتعلق بالمبادئ الرئيسية لتقييم السياسة العمومية: التعاريف والغايات والأهداف وأنواع الأسئلة التقييمية والحكامة المرتبطة بها،
* الجزء الثاني يصف تنظيم عمليات التقييم التي يجريها مجلس النواب: المراحل الأساسية للعملية وأدوار ومسؤوليات الجهات الفاعلة،
* الجزء الثالث يقدم أدوات ونماذج للاستخدام في إطار التقييم من قبل مجلس النواب.
5 .2 المراحل الرئيسية وسير عملية التقييم
تتضمن هذه العملية خطوتين رئيسيتين: برمجة التقييمات والإشراف عليها وتنفيذها.

v     برمجة عمليات التقييم هي  من اختصاص مكتب مجلس النواب الذي يقوم بما يلي:
- تحديد السياسات العمومية التي يتقرر تقييمها وإنجاز دراسات الجدوى التي يتعين القيام بها من قبل الإدارة التقنية،
- الاختيار النهائي للسياسات / البرامج التي يتعين تقييمها وتسمية المقررين المرتبطين بكل عملية تقييم،
- متابعة تنفيذ برنامج التقييم وتعديله إذا لزم الأمر.
ويعتمد المكتب في وظيفة البرمجة هذه على عدد من المعايير لاختيار المواضيع:
5 .2 .1 معايير قابلية تقييم سياسة ما
يقوم مكتب مجلس النواب بتقدير قابلية تقييم المواضيع المقترحة استنادا إلى دراسة محددة، وتهدف إلى التحقق مما إذا كان تقييم المواضيع يعتمد على معايير رئيسية. ويبلغ عدد هذه المعايير حاليا خمسة، وهي تتحقق من الجدوى السياسية والتقنية والعملية والسياقية والقطاعية للمشاريع القطاعية المقترحة للتقييم.
v     المعيار السياسي: الإرادة السياسية لتغيير الرهانات القائمة من حيث إعادة صياغة أهداف السياسة وهامش المناورة المتعلق باتخاذ القرارات والهامش السياسي المرتقب؛
v     المعيار العملي: ترتيبات تدبيرية مصممة تصميما جيدا- ملفات تنفيذية محفوظة بشكل جيد- ممارسات إدارية شفافة؛
v     المعيار التقني: كمية ونوعية المعلومات المتاحة سابقا- وجود تقييمات سابقة، الخ...
ملاحظة: كلما كانت لدينا معلومات نوعية ناجعة كلما كانت التقييمات أسرع وأقل تكلفة.
v     المعيار السياقي: وجود إجماع / معارضة بين الحكومة والأطراف المعنية واستعداد الجميع للتعاون.
ملاحظة: لا ينصح بالبدء في التقييم إذا كان المسؤولون عن التنفيذ يعارضون صراحة عملية التقييم.
v     المعيار القطاعي: ميدان / قطاع تدخل السياسة: اجتماعي أو اقتصادي أو فني أو ابتكاري، الخ...
ملاحظة: تكون عمليات التقييم طويلة ومكلفة خصوصا عندما يكون المجال متعددة الأبعاد (خاصة الاجتماعي) وابتكاريا.
5 .2 .2  الإشراف على التقييم وتنفيذه
يحدد مكتب مجلس النواب مهمة الإشراف على التقييم وتنفيذه. وتسند هذه المهمة حاليا الى مجموعة عمل موضوعاتية (لجنة مختصة). و تنحصر هذه المهمة في :
Ø     الإشراف على أشغال التقييم وفقا للمخطط المحدد مسبقا،
Ø     إعادة ضبط الأعمال وفقا للصعوبات التي واجهتها في ما يتعلق بنطاق التقييم والشركاء الذين يتعين إشراكهم و / أو اللجوء إليهم،
Ø     تتبع الالتزام الفعلي بتوصيات مجلس النواب من قبل الحكومة والسلطات المعنية،
ملاحظة: خلال كل تقييم تنهج  مجموعة العمل هذه،  بمساعدة من الإدارة التقنية، الخطوات الخمس التالية:
·        إعداد تفويض التقييم
يهدف تفويض التقييم إلى تحديد الخطوط العريضة وأهداف مهمة التقييم، وهي تشمل من بين أمور أخرى: ملخص موجز للقضايا التي أدت إلى إطلاق السياسة العمومية موضوع التقييم - إضفاء الطابع الرسمي على أنماط واستخدامات التقييم - صياغة الأسئلة التقييمية الرئيسية – تحديد مواعيد الانتهاء من التقييم.
·        صياغة العناصر المرجعية للتقييم
تهدف العناصر المرجعية إلى تفصيل عناصر التفويض وتوضيح قواعد تنفيذ التقييم. وتشمل ، من بين أمور أخرى، عددا من المحاور منها:
- السياق والإطار التنظيمي للسياسة العمومية التي يتعين تقييمها،
- أهداف التقييم واستخدامه،
- نطاق التقييم: الأنشطة المعنية والمستفيد والفترة الزمنية والنطاق الجغرافي،
- التأطير والتوجيه المنهجي،
- معايير التنظيم ومشاركة المواطنين ومختلف الفاعلين في السياسات موضوع التقييم،
- وصف الخدمات الوظيفية والنتائج المتوقعة،
- الجدول الزمني للمشروع والتواريخ الرئيسية،
- المهارات أو الكفاءات المحددة المطلوبة،
- توجيه ومراقبة سير العمل.
·        القيام بجمع البيانات وتحليلها:
وتشمل هذه الخطوة عدة أنواع من الإجراءات بما في ذلك:
-        تحديد البيانات ذات الصلة
-         جمع البيانات مع الأخذ بعين الاعتبار الوثائق المتوفرة
-        انجاز مسوحات  ميدانية،
-          معالجة وتحليل البيانات التي تم جمعها.

·        الخلاصات والتوصيات
تشمل المرحلة الأخيرة من عملية  التقييم ما يلي :
-        صياغة واعتماد خلاصات التقييم
-        اقتراح التوصيات والمجالات التي تحتاج للتجويد في السياسات موضوع التقييم (تشريعية أو تنظيمية أو إدارية أو مالية أو تقنية ...).
·        تحرير تقرير التقييم
- صياغة النتائج المرتبطة بكل سؤال تقييمي،
- تقديم التحليلات التي أجريت كجزء من التقييم.
ملاحظة: يتضمن تقرير التقييم التحليلات والخلاصات والتوصيات ويقدم من طرف فريق العمل إلى مكتب المجلس، الذي يقدمه بدوره للمناقشة العامة.
6-حالتان عمليتان
قام مجلس النواب بتقييم برنامج الكهربة القروية الشمولي (PERG) والبرنامج المندمج لتزويد العالم القروي بالماء الصالح للشرب (PAGER). وكان القصد من هذا التقييم تفعيل مقتضيات الدستور في ما يتصل بمهمة التقييم ووضع الإطار المرجعي لتقييم السياسات العمومية من قبل مجلس النواب على المحك وتقدير آثار التدخلات المختلفة لكلا البرنامجين على تنمية المناطق القروية (الريفية) وتقديم توصيات للحكومة واقتراح إجراءات للتحسين واقعية وقابلة للتحقيق في المناطق القروية.
ووفقا للمناهج المذكورة، قامت مجموعة العمل الموضوعاتية المسؤولة عن تقييم البرنامجين المذكورين بصياغة ثلاثة أسئلة تقييمية،  كما قامت بتحديد المعايير المستخدمة في كل منهما لتقييم النجاحات أو صعوبات التنفيذ. وقد أسفرت جميع هذه الأسئلة عن نتائج وتوصيات مدعومة بتحليل النتائج النوعية والكمية. وركزت هذه الأسئلة على (أ) التماسك الداخلي للبرامج، (ب) قيمتها الاجتماعية والاقتصادية و(ج) أهمية أهدافها في ضوء المتغيرات.
1.6 منهجية وبنية التقارير
تضمنت التقارير النهائية المقدمة من طرف مجموعة العمل ما يلي:
- عرض لكل برنامج خضع للتقييم (مراحله وأهدافه والجهات الفاعلة فيه)
- الإنجازات،
- تحليل تناسق كل برنامج
– تقييم القيمة الاقتصادية لكل برنامج،
- الاستنتاجات في ما يتعلق بكل إشكالية مطروحة
- التوصيات: التوصيات الاستراتيجية المتعلقة بالسياسات العمومية والاقتراحات العملية التي يمكنها أن تحسن نتائج التدخل الحكومي في القطاعات التي تخضع للتقييم.
بعد هذا العمل الذي تم إنجازه من طرف مجموعة العمل الموضوعاتية، تم عرض التقريرين ومناقشتهما في الجلسة العامة للمجلس. وبالإضافة إلى الرؤساء والناطقين باسم الفرق النيابية، شاركت الحكومة في هذا النقاش الذي أثار اهتمام الرأي العام.

آثــار إثبــات البنـوة والنسـب على ضــوء مقتضيات قانون مدونة الأسرة الجديد 70.03                            الجزء الأول   مقدمة ع...